عن عمر يناهز 67 عاماً، وبعد رحلة مضنية بين منافي الشرق والغرب وعشرات الأحلام المبتسرة والأمنيات المستحيلة اختطف الموت مساء السبت الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، عقب إجراء عملية جراحية في القلب بالولايات المتحدة .
كان الفقيد الكبير قد خضع صباح الأربعاء الماضي لجراحة " قلب مفتوح "، في مستشفى " ميموريال هيرمان " الأميركي، في هيوستن بولاية تكساس الأميركية .
وعلى الرغم من نفي أحد مستشاري رئيس السلطة الفلسطينية نبأ وفاة درويش الذي كان قد خضع لعملية جراحية في القلب في مستشفى بالولايات المتحدة .
وشأن كل كبار الشعراء الذين يستشرفون نهاياتهم، وفي كتابه "جدارية"، تحدث درويش عن الموت وصراعه معه قائلاً : "لم يعد الموت يخيفني، بل صرت أصارعه لأنني أحكي عن تاريخ مصارعتي معه أثناء عملية جراحية، استعيد تاريخ مصارعتي أنا، لكن تنتهي المسألة إلى صداقة ووضع اتفاقيات كيف يكون شهماً وفارساً، ولا يكون غادرا، لأنه أقوى من ان يكون جباناً، فيأتي بهذه الطريقة كاللصوص" .
وتحدث درويش عن اكتشافه للموت وكأنه أمر يدعو للراحة والسعادة وحتى البهجة قائلاً : "لم يعد الموت مسألة تخيفني بتاتا، لأنه اذا كان الموت مثل هذا النوم، فهو ليس مشكلة، وخصوصا أنني مررت بتجربة سابقة عام 1984 عندما تعرضت لموت سريري، وقتها كنت أرى نفسي نائما وسابحا على غيوم بيضاء".
المتنبي والمعري
وولد درويش عام 1941 في قرية "البروة" بقضاء عكا التي دمرت عام 1948، ليهاجر مع عائلته الى لبنان قبل ان تعود العائلة وتعيش في الجليل، وأجبر درويش على مغادرة البلاد بعد ان اعتقل عدة مرات ثم عاد بعد التوقيع على اتفاقيات السلام المؤقتة .
ويروي محمود درويش قصة عملية جراحية سابقة وما حصل قبلها وخلالها وبعدها من أمور انسانية، قائلاً: في عام 1998 كنت في بلجيكا، أعطوني شهادة دكتوراه فخرية من جامعة هناك، وعرجت على باريس لإجراء فحوص طبية، قرر الطبيب إجراء جراحة عاجلة، فتحمست لاجرائها، لم أتردد أبدا رغم انه قال لي انها خطيرة، لكن طبيب القلب اعترض على اجرائها لأن قلبي لا يتحمل، وبعد نقاش اتفق الطبيبان على القيام بها، انها مغامرة، فدخلت غرفة التخدير وكانت آخر كلمة سمعتها من الطبيب "نلتقي" وبعدها نمت .
يواصل درويش : "لا أعرف ماذا جرى لي، لكن بعد الصحو قيل لي إنني مررت بخطر الموت الحتمي، بل حتى جرى البحث في ترتيب جنازة، لكني كنت غائبا، هذا لم يكن عذابي ولا المي، كان عذاب اصدقائي، هم الذين كانوا يعذبهم هذا الموت، اما انا فكنت نائما، لكن بعد ان صحوت وعرفت ما حدث لي "كانوا اناموني نحو أربعة ايام تنويما اصطناعيا" صرت احس بهلوسات، وهذيان" .
ويمضي قائلاً : كنت مقتنعا بأنني لست في مستشفى، بل في قبو سجن، وبأن سجاني يعذبونني في كل يوم، ومرة زارني الياس خوري، دخل غرفتي في جناح العناية الفائقة، وتناقشت معه عن روايته بوعي كامل، ثم طلبت منه ان يهربني من السجانين الذين يضربونني، فإذا كنت في لحظة ما في كامل صحوي، وفي لحظة اخرى تحت الهلوسة نتيجة البنج، دخلت في عوالم قاسية جدا، واستحدث ذكريات بعيدة جداً، ورأيت مشاهد عجيبة، مثلا رأيت نفسي قاعدا مع رينيه شار، ورأيت المتنبي والمعري، فاختلطت الأزمنة والأمكنة، وكنت على يقين بأن ما أراه هو الواقع وليست مجرد خيالات، بل إن أصدقائي خافوا علي، قالوا ربما أصبت بالجنون، وخصوصا انني دخلت في خوف عميق من أنني نسيت اللغة العربية .
درويش وفلسطين
ويعد درويش واحدا من أهم الشعراء العرب المعاصرين الذين امتزج شعرهم بحب الوطن والحبيبة وترجمت أعماله الى ما يقرب من 22 لغة وحصل على العديد من الجوائز العالمية، منها: جائزة لوتس عام 1969، وجائزة البحر المتوسط عام 1980..ودرع الثورة الفلسطينية عام 1981 لوحة أوروبا للشعر عام 1981، وجائزة ابن سينا في الاتحاد السوفيتي عام 1982وجائزة لينين في الاتحاد السوفييتي عام 1983.
ويحظى الفقيد الكبير بمنزلة كبيرة لدى كافة الساسة الفلسطينيين من مختلف التوجهات، خاصة الرئيس الراحل ياسر عرفات .
وكتب درويش مئات القصائد، وكان من بين شعراء قلائل يحظون بشعبية جارفة تنافس المطربين، يمكن للمرء أن يلحظها في ندواته الشعرية التي كانت تغص بآلاف الحاضرين من الشباب، وما نسيت لن أنسى آخر أمسياته في الجامعة الأميركية بالقاهرة .. التي شدا فيها إحدى قصائده القديمة قائلاً :
مثلما سار المسيح علي البحيرة،
سرت في رؤياي، لكني نزلت عن الصليب
لأنني أخشي العلو، ولا ابشر بالقيامة
لم اغير غير ايقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا
للملحميين النسور ولي انا: طوق الحمامة، نجمة مهجورة فوق السطوح
وشارع متعرج يفضي الي ميناء عكا ـ ليس اكثر او اقل ـ
أريد أن ألقي تحيات الصباح علي حيث تركتني
ولدا سعيدا لم اكن ولدا سعيد الحظ يومئذ،
ولكن المسافة، مثل حدادين ممتازين،
تصنع من حديد تافه قمراً
..
وداعاً يا درويش ..